كتبتُ هذا المقال بعد مشاهدتي تقريرا محزنا (على قناة Global news) يتعلق بأم تطالب بالقتل الرحيم لابنيها المعوقين.. فرغم أنهما ولدا سليمين، كانا يحملان معهما خللا وراثيا تفاقم خلال أربعين عاما بحيث أصيبا بالتخلف والشلل الكامل.. لم يعد جفري ولا أخته جانيت قادرين على التحرك والعناية بنفسيهما أو حتى تمييز شيء من العالم الخارجي.
وفي حين هرب الأب مبكرا تحملت الأم رعايتهما حتى وصلا لمرحلة بدأت ترى فيها أن من الأكرم لهما الموت بلا ألم.. وهكذا بدأت بخوض معركة قانونية لاستصدار حكم بموتهما الأمر الذي أحدث نقاشا مثيرا في أميركا (مثل دول كثيرة حول العالم) بشأن ما يعرف بقانون الموت الرحيم.
وبالنسبة لنا تبدو القضية محسومة لصالح عدم قتلهما ولكنها في المجتمعات الأخرى تملك مؤيدين ليس لفعل القتل ذاته بل لترك قرار الموت والحياة للمريض الميؤوس من شفائه.. يعتمدون على حجة "من نحن؟" لنقرر نيابة عن المريض حجم الألم الذي يعانيه وتفضيله الموت على العيش بألم ومعاناة وتعذيبة لمحبيه.. ويعرف هذا الاجراء باسم القتل الرحيم (Mercy Killing أو Euthanasia) المسموح به رسميا في أكثر من 21 دولة حول العالم - ويمكنك مشاهدة الكثير عنه في اليوتيوب -.
ومن الدول التي تجيز القتل الرحيم هولندا واليابان وبلجيكا وكولومبيا ولوكسمبورج.. في حين أن المساعدة على الانتحار مسموح بها للأطباء في سويسرا وألمانيا والبانيا وأميركا والهند..(وكلاهما بالمناسبة يختلف عن السماح للأطباء بنزع الأجهزة الداعمة للحياة الذي تجيزه معظم الدول في حال الموت الدماغي)!
وحسب علمي كانت هولندا من أوائل الدول التي أجازت مبدأ الموت الرحيم وترك قرار كهذا للمريض وعائلته (حتى قبل إجازة هذا القانون رسميا عام 1984). ففي الحالات الميؤوس من شفائها أو التي تسبب آلاماً لا تطاق يحق للمريض التشاور مع طبيبه للوصول لأفضل وسيلة لإنهاء حياته..
غير ان المشكلة الأخلاقية التي يواجهها المجتمع الطبي في هولندا اليوم لا تتعلق بالقانون ذاته، بل في أن بعض الأطباء أصبح يتخذ من نفسه مرجعا لتقرير خيار كهذا - من أبسط أشكاله الإيحاء بذلك للمريض وعائلته -!
وفي مسح قامت به مجلة الأخلاق الطبية البريطانية على 900 حالة اتضح ان 20% من تلك الحالات نفذها الأطباء (في هولندا) بدون استشارة مرضاهم او الحصول منهم على إذن صريح بإنهاء الحياة.
واليوم يقدر أن عدد الذين يموتون في هولندا بهذه الطريقة 10 آلاف مريض في العام يشكلون (8%) من مجموع الوفيات.
وبسبب ما يجري (في الدول الأخرى) حذرت المجلة من تطبيق قانون القتل الرحيم في بريطانيا ما لم يوافق المريض خطياً وبفعله هو على إنهاء حياته بنفسه وبشهادة عائلته!
.. أما خارج الدول التي لا تجيز "القتل الرحيم" فالأمر قد لا يتخذ الصبغة الرسمية الصريحة ولكن يعتقد ان فريقا كبيرا من الأطباء يقومون فعلا (وبموافقة ضمنية من الأهل) على مساعدة المرضى للتخلص من حياتهم أو ترك الخيار لهم لنزع الأجهزة الداعمة لحياتهم..
وغني عن القول أن قانونا كهذا يصعب شرعا وأخلاقا تطبيقه في مجتمعنا.. غير أننا في المقابل نملك معضلة حقيقية في اتخاذ قرار بتوقيت ومتى نُوقف أجهزة الحياة عن المتوفين دماغيا - ناهيك عن تفوق أخطائنا الطبية على ضحايا القتل الرحيم في هولندا وسويسرا واليابان وألمانيا وبلجيكا مجتمعين..
يقول المتنبي في بيت شعر يؤكد عراقة الفكرة وأزلية الخيار:
كفى بكَ داء أنْ ترَى الموْت شافِيَا
وَحَسْبُ المنايا أنْ يكُنّ أمانيا
أموت أعرف كيف كتب بيتا بهذا التعقيد.
-----------------------
صحيفة الرياض
الخميس 16 محرم 1437 هـ (أم القرى) - 29 اكتوبر 2015م - العدد 17293 , صفحة رقم ( 44 )